فصل: فصل: أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وجعله تبيانا لكل شيء، وذكري لأولي الأل

باب، وأمرنا بالاعتصام به؛ إذ هو حبله الذي هو أثبت الأس

باب، وهدانا به إلى سبل الهدي ومناهج الصواب، وأخبر فيه أنه‏:‏ ‏{‏جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له رب الأرباب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بجوامع الكلم، والحكمة وفصل الخطاب، صلى الله عليه وعلى آله صلاة دائمة باقية بعد إلى يوم المآب‏.‏

أما بعـد‏:‏ فإن الله قد أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينًا، وأمرنا أن نتبع صراطه المستقيم، ولا نتبع السبل فتفرق بنا عن سبيله، وجعل هذه الوصية خاتمة وصاياه العشر، التي هي جوامع الشرائع التي تضاهي الكلمات التي أنزلها الله على موسي في /التوراة، وإن كانت الكلمات التي أنزلت علينا أكمل وأبلغ؛ ولهذا قال الربيع بن خثيم‏:‏ من سره أن يقرأ كتاب محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يفض خاتمه بعده، فليقرأ آخر سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عليكُمْ‏}‏ الآيات ‏[‏الأنعام‏:‏ 151، 153‏]‏‏.‏

وأمرنا ألا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأخبر رسوله أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء‏.‏ وذكر أنه جعله على شريعة من الأمر وأمره أن يتبعها، ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون‏.‏ وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إليكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48،49‏]‏‏.‏ فأمره ألا يتبع أهواءهم عما جاءه من الحق، وإن كان ذلك شرعًا أو طريقًا لغيره من الأنبياء، فإنه قد جعل لكل نبي سنة وسبيلاً، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، فإذا كان هذا فيما جاءت به شريعة غيره، فكيف بما لا يعلم أنه جاءت به شريعة، بل هو طريقة من لا كتاب له‏؟‏‏!‏

/وأمره وإيانا في غير موضع ـ أن نتبع ما أنزل إلينا، دون مخالفة فقال‏:‏ ‏{‏المص كِتَابٌ أُنزِلَ إليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏1ـ3‏]‏‏.‏

وبين حال الذين ورثوا الكتاب فخالفوه، والذين استمسكوا به فقال‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏169،170‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا‏}‏ الآيات ‏[‏الأنعام‏:‏ 155،156‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عليمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إليكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1، 2‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏103‏]‏‏.‏ وحبل الله كتابه، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إليكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 109‏]‏ إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي أجمع المسلمون على اتباعها، وهذا مما لم يختلف المسلمون فيه جملة‏.‏

ولكن قد يقع التنازع في تفصيله، فتارة يكون بين العلماء المعتبرين في مسائل الاجتهاد، وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين أو منافقون /أو سماعون للمنافقين‏.‏ فقد أخبر الله ـ سبحانه ـ أن فينا قومًا سماعين للمنافقين، يقبلون منهم كما قال‏:‏ ‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏ وإنما عداه باللام؛ لأنه متضمن معني القبول والطاعة، كما قال الله على لسان عبده‏:‏ ‏[‏سمع الله لمن حمده‏]‏ أي‏:‏ استجاب لمن حمده، وكذلك ‏{‏سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ مطيعون لهم، فإذا كان في الصحابة قوم سماعون للمنافقين فكيف بغيرهم‏؟‏‏!‏

وكذلك أخبر عمن يظهر الانقياد لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41،42‏]‏، فإن الصواب أن هذه اللام لام التعدية كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏ أي‏:‏ قائلون للكذب، مريدون له وسامعون مطيعون لقوم آخرين غيرك، فليسوا مفردين لطاعة الله ورسوله‏.‏ ومن قال‏:‏ إن اللام لام كي، أي‏:‏ يسمعون ليكذبوا لأجل أولئك، فلم يصب، فإن السياق يدل على أن الأول هو المراد، وكثيرًا ما يضيع الحق بين الجهال الأميين، وبين المحرفين للكلم الذين فيهم شعبة نفاق،كما أخبر ـ سبحانه ـ عن أهل الكتاب /حيث قال‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 75 ـ 78‏]‏‏.‏

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه، وجب أن يكون فيهم من يحرف الكلم عن مواضعه، فيغير معني الكتاب والسنة فيما أخبر الله به أو أمر به، وفيهم أميون لا يفقهون معاني الكتاب والسنة، بل ربما يظنون أن ما هم عليه من الأماني التي هي مجرد التلاوة، ومعرفة ظاهر من القول، هو غاية الدين‏.‏

ثم قد يناظرون المحرفين وغيرهم من المنافقين أو الكفار، مع علم أولئك بما لم يعلمه الأميون، فإما أن تضل الطائفتان، ويصير كلام هؤلاء فتنة على أولئك حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين، ويصيروا في طرفي النقيض‏.‏ وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في بعض ضلالهم، وهذا من بعض أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ ولا تزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق، فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها، وتغيير شرائعها مطلقًا؛ لما ينطق /الله به القائمين بحجة الله وبيناته، الذين يحيون بكتاب الله الموتي، ويبصرون بنوره أهل العمي، فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛ لكيلا تبطل حجج الله وبيناته‏.‏

وكان مقتضي تقدم هذه ‏[‏المقدمة‏]‏ أني رأيت الناس في شهر صومهم، وفي غيره ـ أيضًا ـ منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب‏:‏ من أن الهلال يري، أو لا يري، ويبني على ذلك إما في باطنه، وإما في باطنه وظاهره، حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب‏:‏ إنه يري، أو لا يري، فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه، وربما أجاز شهادة غير المرضي لقوله، فيكون هذا الحاكم من السماعين للكذب، فإن الآية تتناول حكام السوء، كما يدل عليه السياق حيث يقول‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏، وحكام السوء يقبلون الكذب ممن لا يجوز قبول قوله من مخبر أو شاهد، ويأكلون السحت من الرشا وغيرها، وما أكثر ما يقترن هذان‏.‏

وفيهم من لا يقبل قول المنجم لا في الباطن ولا في الظاهر، لكن في قلبه حَسِيكَة من ذلك، وشبهة قوية لثقته به من جهة أن الشريعة لم تلتفت إلى ذلك، لا سيما أن كان قد عرف شيئًا من حساب النيرين /واجتماع القرصين، ومفارقة أحدهما الآخر بعدة درجات، وسبب الإهلال والإبدار والاستتار والكسوف والخسوف، فأجري حكم الحاسب الكاذب الجاهل بالرؤية هذا المجري، ثم هؤلاء الذين يخبرون من الحساب، وصورة الأفلاك وحركاتها أمرًا صحيحًا قد يعارضهم بعض الجهال من الأميين المنتسبين إلى الإيمان، أو إلى العلم ـ أيضًا ـ فيراهم قد خالفوا الدين في العمل بالحساب في الرؤية، أو في اتباع أحكام النجوم في تأثيراتها المحمودة والمذمومة، فيراهم لما تعاطوا هذا ـ وهو من المحرمات في الدين ـ صار يرد كل ما يقولونه من هذا الضرب، ولا يميز بين الحق الذي دل عليه السمع والعقل، والباطل المخالف للسمع والعقل، مع أن هذا أحسن حالاً في الدين من القسم الأول؛ لأن هذا كَذَّب بشيء من الحق، متأولاً جاهلاً من غير تبديل بعض أصول الإسلام‏.‏ والضرب الأول قد يدخلون في تبديل الإسلام‏.‏

فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يري أو لا يري لا يجوز‏.‏ والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث؛ إلا أن /بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال؛ جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا‏.‏ وهذا القول وإن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًا بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم‏.‏

وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال، وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولاً يعمل عليه، وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية، وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام، وقد برأ الله منها جعفرًا وغيره، ولا ريب أن أحدًا لا يمكنه مع ظهور دين الإسلام أن يظهر الاستناد إلى ذلك، إلا أنه قد يكون له عمدة في الباطن في قبول الشهادة وردها، وقد يكون عنده شبهة في كون الشريعة لم تعلق الحكم به، وأنا ـ إن شاء الله ـ أبين ذلك وأوضح ما جاءت به الشريعة دليلاً وتعليلاً، شرعًا وعقلاً‏.‏

قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏ فأخبر أنها مواقيت للناس، وهذا عام في جميع أمورهم، وخص الحج بالذكر تمييزًا له؛ ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم، ولأنه يكون في آخر شهور الحول، فيكون علمًا على الحول، كما أن الهلال/ علم على الشهر؛ ولهذا يسمون الحول حجة، فيقولون له‏:‏ سبعون حجة، وأقمنا خمس حجج، فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع ابتداء، أو سببًا من العبادة، وللأحكام التي تثبت بشروط العبد، فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه الصيام والحج، ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة، وهذه الخمسة في القرآن‏.‏

قال الله ـ تعالى ‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏226‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏92‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وكذلك صوم النذر وغيره، وكذلك الشروط من الأعمال المتعلقة بالثمن، ودين السلم، والزكاة، والجزية، والعقل، والخيار، والأيمان، وأجل الصداق، ونجوم الكتابة، والصلح عن القصاص، وسائر ما يؤجل من دين وعقد وغيرهما‏.‏

وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏39‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏لِتَعْلَمُوا‏}‏ متعلق ـ والله أعلم ـ بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدَّرَهُ‏}‏ لا بـ ‏{‏جَعَلَ‏}‏؛ لأن كون هذا /ضياء، وهذا نورًا لا تأثير له في معرفة عدد السنين والحساب، وإنما يؤثر في ذلك انتقالهما من برج إلى برج؛ ولأن الشمس لم يعلق لنا بها حساب شهر، ولا سنة، وإنما علق ذلك بالهلال، كما دلت عليه تلك الآية؛ ولأنه قد قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏36‏]‏، فأخبر أن الشهور معدودة اثنا عشر، والشهر هلالي بالاضطرار، فعلم أن كل واحد منها معروف بالهلال‏.‏

وقد بلغني أن الشرائع قبلنا ـ أيضا ـ إنما علقت الأحكام بالأهلة، وإنما بَدَّلَ من بَدَّلَ من أتباعهم، كما يفعله اليهود في اجتماع القرصين، وفي جعل بعض أعيادها بحساب السنة الشمسية، وكما تفعله النصاري في صومها حيث تراعي الاجتماع القريب من أول السنة الشمسية، وتجعل سائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التي كانت للمسيح، وكما يفعله الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين في اصطلاحات لهم، فإن منهم من يعتبر بالسنة الشمسية فقط، ولهم اصطلاحات في عدد شهورها؛ لأنها وإن كانت طبيعية، فشهرها عددي وضعي‏.‏ ومنهم من يعتبر القمرية لكن يعتبر اجتماع القرصين، وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب‏.‏

/وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار،ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار؛ ولهذا سموه هلالا؛ لأن هذه المادة تدل على الظهور والبيان، إما سمعًا وإما بصرًا، كما يقال‏:‏ أهَلَّ بالعمرة، وأهَلَّ بالذبيحة لغير الله، إذا رفع صوته، ويقال لوقع المطر‏:‏ الهلل‏.‏ ويقال‏:‏ استهل الجنين، إذا خرج صارخًا‏.‏ ويقال‏:‏ تهلَّل وجهه، إذا استنار وأضاء‏.‏

وقيل‏:‏ إن أصله رفع الصوت، ثم لما كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته سموه هلالا، ومنه قوله‏:‏

يهــل بالفـرقــد ركبـانــهــا ** كمــا يهــل الراكـب المعتمـــر

وتهلل الوجه مأخوذ من استنارة الهلال‏.‏

فالمقصود أن المواقيت حددت بأمر ظاهر بَين يشترك فيه الناس، ولا يشرك الهلال في ذلك شيء، فإن اجتماع الشمس والقمر الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال أمر خفي لا يعرف إلا بحساب ينفرد به بعض الناس، مع تعب وتضييع زمان كثير، واشتغال عما يعني الناس، وما لابد له منه، وربما وقع فيه الغلط والاختلاف‏.‏

/وكذلك كون الشمس حاذت البرج الفلاني، أو الفلاني، هذا أمر لا يدرك بالأبصار، وإنما يدرك بالحساب الخفي الخاص المشكل الذي قد يغلط فيه، وإنما يعلم ذلك بالإحساس تقريبًا، فإنه إذا انصرم الشتاء، ودخل الفصل الذي تسميه العرب الصيف، ويسميه الناس الربيع؛ كان وقت حصول الشمس في نقطة الاعتدال الذي هو أول الحمل، وكذلك مثله في الخريف، فالذي يدرك بالإحساس الشتاء والصيف، وما بينهما من الاعتدالين تقريبًا، فأما حصولها في بُرْج بعد بُرْج فلا يعرف إلا بحساب فيه كلفة وشغل عن غيره، مع قلة جدواه‏.‏

فظهر أنه ليس للمواقيت حد ظاهر عام المعرفة إلا الهلال‏.‏

وقد انقسمت عادات الأمم في شهرهم وسنتهم القسمة العقلية؛ وذلك أن كل واحد من الشهر والسنة، إما أن يكونا عدديين، أو طبيعيين، أو الشهر طبيعيا، والسنة عددية، أو بالعكس‏.‏

فالذين يعدونهما، مثل من يجعل الشهر ثلاثين يومًا، والسنة اثني عشر شهرًا، والذين يجعلونهما طبيعيين، مثل من يجعل الشهر قمريا، والسنة شمسية، ويلحق في آخر الشهور الأيام المتفاوتة بين /السنتين، فإن السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا، وبعض يوم خمس أو سدس، وإنما يقال فيها‏:‏ ثلاثمائة وستون يومًا جبرًا للكسر في العادة ـ عادة العرب في تكميل ما ينقص من التاريخ في اليوم والشهر والحول‏.‏

وأما الشمسية، فثلاثمائة وخمسة وستون يومًا، وبعض يوم، ربع يوم؛ ولهذا كان التفاوت بينهما أحد عشر يومًا إلا قليلا، تكون في كل ثلاثة وثلاثين سنة وثلث سنة‏:‏ سنة؛ ولهذا قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ قيل معناه‏:‏ ثلاثمائة سنة شميسة‏.‏ ‏{‏وَازْدَادُوا تِسْعًا‏}‏ بحساب السنة القمرية، ومراعاة هذين عادة كثير من الأمم، من أهل الكتابين بسبب تحريفهم، وأظنه كان عادة المجوس ـ أيضًا‏.‏

وأما من يجعل السنة طبيعية، والشهر عدديا، فهذا حساب الروم والسريانيين والقبط ونحوهم من الصابئين والمشركين، ممن يعد شهر كانون ونحوه عددًا، ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس‏.‏

فأما القسم الرابع، فبأن يكون الشهر طبيعيا، والسنة عددية، فهو سنة المسلمين ومن وافقهم، ثم الذين يجعلون السنة طبيعية لا يعتمدون/ على أمر ظاهر كما تقدم، بل لابد من الحساب والعدد، وكذلك الذين يجعلون الشهر طبيعيا، ويعتمدون على الاجتماع لابد من العدد والحساب، ثم ما يحسبونه أمر خفي ينفرد به القليل من الناس، مع كلفة ومشقة وتعرض للخطأ‏.‏

فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الأمور؛ لأنه وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام يدرك بالأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله ـ كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم‏.‏

وأما الحول، فلم يكن له حَدٌ ظاهر في السماء، فكان لابد فيه من الحساب والعدد، فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من أن يحسب بسير الشمس، وتكون السنة مطابقة للشهور؛ ولأن السنين إذا اجتمعت فلابد من عددها في عادة جميع الأمم؛ إذ ليس للسنين إذا تعددت حد سماوي يعرف به عددها، فكان عدد الشهور موافقًا لعدد البروج، جعلت السنة اثني عشر شهرًا بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية، فإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية‏.‏ وبهذا كله يتبين معني قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏، فإن عدد شهور السنة، وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل، وكذلك معرفة الحساب؛ فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال، وكذلك قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

فظهر ـ بما ذكرناه ـ أنه بالهلال يكون توقيت الشهر والسنة، وأنه ليس شيء يقوم مقام الهلال البتة لظهوره وظهور العدد المبني عليه، وتيسر ذلك وعمومه، وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد‏.‏

ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس، وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من أمورهم من الاضطراب والحرج، وغير ذلك من المفاسد؛ ازداد شكره على نعمة الإسلام،مع اتفاقهم أن الأنبياء لم يشرعوا شيئًا من ذلك، وإنما دخل عليه م ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة الذين أدخلوا في ملتهم، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏.‏

فلهذا ذكرنا ما ذكرناه حفظًا لهذا الدين عن إدخال المفسدين، فإن هذا مما يخاف تغييره، فإنه قد كانت العرب في جاهليتها قد غيرت ملة إبراهيم بالنسيء الذي ابتدعته، فزادت به في السنة شهرًا جعلتها كبيسًا؛ لأغراض /لهم، وغيروا به ميقات الحج والأشهر الحرم، حتى كانوا يحجون تارة في المحرم، وتارة في صفر، حتى يعود الحج إلى ذي الحجة، حتى بعث الله المقيم لملة إبراهيم فوافي حجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وقد استدار الزمان كما كان، ووقعت حجته في ذي الحجة، فقال في خطبته المشهورة في الصحيحين وغيرهما‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات‏:‏ ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان‏)‏‏.‏ وكان قبل ذلك الحج لا يقع في ذي الحجة، حتى حجة أبي بكر سنة تسع كان في ذي القعدة، وهذا من أسباب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج، وأنزل الله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏‏.‏

فأخبر الله أن هذا هو الدين القيم؛ ليبين أن ما سواه من أمر النسيء وغيره من عادات الأمم ليس قيمًا؛ لما يدخله من الانحراف والاضطراب‏.‏

ونظير الشهر والسنة اليوم والأسبوع، فإن اليوم طبيعي من طلوع/ الشمس إلى غروبها، وأما الأسبوع فهو عددي من أجل الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، ثم استوي على العرش، فوقع التعديل بين الشمس والقمر باليوم، والأسبوع بسير الشمس، والشهر والسنة بسير القمر، وبهما يتم الحساب، وبهذا قد يتوجه قوله‏:‏ ‏{‏لِتَعْلَمُواْ‏}‏ إلى ‏{‏جَعَلَ‏}‏ فيكون جعل الشمس والقمر لهذا كله‏.‏

فأما قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏، فقد قيل‏:‏ هو من الحساب‏.‏ وقيل‏:‏ بحسبان كحسبان الرحا، وهو دوران الفلك، فإن هذا مما لا خلاف فيه، بل قد دل الكتاب والسنة وأجمع علماء الأمة على مثل ما عليه أهل المعرفة من أهل الحساب من أن الأفلاك مستديرة لا مسطحة‏.‏

/ فصل

لما ظهر بما ذكرناه عود المواقيت إلى الأهله؛ وجب أن تكون المواقيت كلها معلقة بها، فلا خلاف بين المسلمين أنه إذا كان مبدأ الحكم في الهلال حسبت الشهور كلها هلالية، مثل أن يصوم للكفارة في هلال المحرم، أو يتوفي زوج المرأة في هلال المحرم، أو يولي من امرأته في هلال المحرم، أو يبيعه في هلال المحرم إلى شهرين أو ثلاثة، فإن جميع الشهور تحسب بالأهلة، وإن كان بعضها أو جميعها ناقصًا‏.‏

فأما إن وقع مبدأ الحكم في أثناء الشهر، فقد قيل‏:‏ تحسب الشهور كلها بالعدد بحيث لو باعه إلى سنة في أثناء المحرم عد ثلاثمائة وستين يومًا، وإن كان إلى ستة أشهر عد مائة وثمانين يومًا، فإذا كان المبتدأ منتصف المحرم كان المنتهي العشرين من المحرم‏.‏ وقيل‏:‏ بل يكمل الشهر بالعدد، والباقي بالأهلة، وهذان القولان روايتان عن أحمد وغيره، وبعض الفقهاء يفرق في بعض الأحكام‏.‏

/ثم لهذا القول تفسيران‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يجعل الشهر الأول ثلاثين يومًا، وباقي الشهور هلالية، فإذا كان الإيلاء في منتصف المحرم حسب باقيه، فإن كان الشهر ناقصًا أخذ منه أربعة عشر يومًا، وكمله بستة عشر يومًا من جمادي الأولي، وهذا يقوله طائفة من أصحابنا وغيرهم‏.‏

والتفسير الثاني ـ هو الصواب الذي عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا ـ أن الشهر الأول إن كان كاملاً كمل ثلاثين يومًا، وإن كان ناقصًا جعل تسعة وعشرين يومًا، فمتي كان الإيلاء في منتصف المحرم كملت الأشهر الأربعة في منتصف جمادي الأولي، وهكذا سائر الحساب، وعلى هذا القول، فالجميع بالهلال ولا حاجة إلى أن نقول بالعدد، بل ننظر اليوم الذي هو المبدأ من الشهر الأول، فتكون النهاية مثله من الشهر الآخر، فإن كان في أول ليلة من الشهر الأول كانت النهاية في مثل تلك الساعة بعد كمال الشهور، وهو أول ليلة بعد انسلاخ الشهور، وإن كان في اليوم العاشر من المحرم كانت النهاية في اليوم العاشر من المحرم أو غيره على قدر الشهور المحسوبة، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، ودل عليه قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏، فجعلها مواقيت لجميع الناس، مع علمه سبحانه أن الذي يقع في أثناء الشهور أضعاف أضعاف ما يقع في أوائلها، فلو لم يكن ميقاتًا إلا لما /يقع في أولها لما كانت ميقاتًا إلا لأقل من ثلث عشر أمور الناس، ولأن الشهر إذا كان ما بين الهلالين، فما بين الهلالين مثل ما بين نصف هذا ونصف هذا سواء، والتسوية معلومة بالاضطرار‏.‏ والفرق تحكم محض‏.‏

وأيضًا، فمن الذي جعل الشهر العددي ثلاثين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا‏)‏ وخَنَسَ إبهامه في الثالثة‏.‏ ونحن نعلم أن نصف شهور السنة يكون ثلاثين، ونصفها تسعة وعشرين‏؟‏‏!‏

وأيضًا، فعامة المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم إذا أجل الحق إلى سنة، فإن كان مبدؤه هلال المحرم، كان منتهاه هلال المحرم، سَلْخ ذي الحجة عندهم‏.‏ وإن كان مبدؤه عاشر المحرم كان منتهاه عاشر المحرم ـ أيضًا، لا يعرف المسلمون غير ذلك، ولا يبنون إلا عليه، ومن أخذ ليزيد يومًا لنقصان الشهر الأول؛ كان قد غير عليه م ما فطروا عليه من المعروف، وأتاهم بمنكر لا يعرفونه‏.‏

فعلم أن هذا غلط ممن توهمه من الفقهاء، ونبهنا عليه ليحذر الوقوع فيه، وليعلم به حقيقة قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏، وإن هذا العموم محفوظ عظيم القدر، لا يستثني منه شيء‏.‏

/وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏، يبين بذلك أن جميع عدد السنين والحساب تابع لتقديره منازل‏.‏

 

فصل

ما ذكرناه من أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة لا ريب فيه‏.‏ لكن الطريق إلى معرفة طلوع الهلال هو الرؤية لا غيرها بالسمع والعقل‏.‏

أما السمع فقد أخبرنا غير واحد، منهم شيخنا الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن محمد المقدسي، وأبو الغنائم ـ المسلم بن عثمان القَيسي وغيرهما، قالوا‏:‏ أنبأنا حَنْبَلي بن عبد الله المؤذِن، أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن الحُصَين، أنبأنا أبو على بن المذهب، أنبأنا أبو بكر /أحمد بن جعفر بن حمدان، أنبأنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن محمد ابن حنبل، أنبأنا أبي، حدثنا محمد بن جعفر ـ غندر، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، سمعت سعيد بن عمر بن سعيد يحدث أنه سمع ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكـذا‏)‏‏.‏ وعقد الإبهام في الثالثـة‏:‏ ‏(‏والشهر هكذا، وهكذا، وهكـذا‏)‏ يعني تمام الثلاثين‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وإسحاق ـ يعني الأزرق ـ أنبأنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن سعيد بن عمر، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنَّا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا‏)‏ يعني‏:‏ ذكر تسعًا وعشرين‏:‏ قال إسحاق‏:‏ وطبق بيديه ثلاث مرات، وخَنَسَ إبهامه في الثالثة، أخرجه البخاري عن آدم، عن شعبة، ولفظة‏:‏ ‏(‏إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا‏)‏ يعني‏:‏ مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين‏.‏

وكذلك رواه أبو داود، عن سليمان بن حرب، عن شعبة، ولفظة‏:‏ ‏(‏إنا أمة أمية، لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا‏)‏ وخنس سليمان إصبعه في الثالثة، يعني‏:‏ تسعة وعشرين، وثلاثين‏.‏ رواه /النسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان ـ كما ذكرناه‏.‏ ومـن طـريق غندر عن شعبة ـ أيضًا ـ كما سقناه، وقال في آخره‏:‏ تمام الثلاثين‏.‏ ولم يقل‏:‏ يعني، فروايته من جهة المسند ـ كما سقناه ـ أَجَلُّ الطرق، وأرفعها قدرًا؛ إذ غُندر أرفع من كل من رواه عن شعبة وأضبط لحديثه، والإمام أحمد أَجَلُّ من رواه عن غندر، عن شعبة، وهذه الرواية المسندة التي رواها البخاري وأبو داود والنسائي من حديث شعبة تفسر رواية النووي وسائر الروايات عن ابن عمر مما فيه إجمال يوهم بسببه على ابن عمر مثل ما رويناه بالطريق المذكورة‏:‏ إن أحمد قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر وبَهْزُ قالا‏:‏ حدثنا شعبة، عن جبلة يقول لنا ابن سُحَيم‏:‏ قال بهز‏:‏ أخبرني جَبَلة بن سُحَيم، سمعت ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشهر هكذا‏)‏ وطبق بأصابعه مرتين وكسر في الثالثة الإبهام‏.‏ قال محمد بن جعفر في حديثه ـ يعني قوله‏:‏ ‏(‏تسعا وعشرين‏)‏‏:‏ هكذا رواه البخاري والنسائي من حديث شعبة ولفظه‏:‏ ‏(‏الشهر هكذا، وهكذا‏)‏ وخنس الإبهام في الثالثة‏.‏ ومثل ما روي نافع عن ابن عمر ـ كما رويناه ـ بالإسناد المتقدم إلى أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، أنبأنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له‏)‏ قال نافع‏:‏ وكان عبد الله إذا مضي من شعبان تسع وعشرون، يبعث من /ينظر، فإن رؤي فذاك، فإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قَتَرٌ أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائمًا‏.‏

ورويناه في سنن أبي داود من حديث حماد بن زيد قال‏:‏ أنبأنا أيوب هكذا سواء، ولفظه‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏ قال في آخره‏:‏ فكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعًا وعشرين نظر له، فإن رؤي فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر، أصبح مفطرًا، فـإن حـال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائمًا‏.‏ قال‏:‏ فكان ابن عمر يفطر مع الناس، ولا يأخـذ بـهذا الحساب، وروي له باللفظ الأول عبد الرزاق في ‏[‏مصنفه‏]‏ عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما الشهر تسع وعشرون‏)‏ وبه عن ابن عمر أنه إذا كان سحاب أصبح صائمًا، وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرًا‏.‏

قال‏:‏ وأنبأنا مَعْمَر، عن ابن طَاوس، عن أبيه مثله، وهكذا رواه عبيد الله بن عمر، عن نافع كما رويناه بالإسناد المتقدم إلى أحمد‏:‏ حدثنا يحيي بن سعيد، عن عبيد الله، حدثني نافع، عن ابن عمر‏:‏ إذا كان ليلة تسع وعشرين، وكان في السماء سحاب أو قَتر أصبح صائمًا، رواه النسائي عن عمرو بن على عن يحيي، ولفظه‏:‏ ‏(‏لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه،/ فإن غم عليكم فاقدروا له‏)‏‏.‏ وذكر أن عبيد الله بن عمرو روي عنه محمد بن بشر، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهلال، فقال‏:‏ ‏(‏إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فَأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فعدوا ثلاثين‏)‏ وجعل هذا اختلافًا على عبيد الله، ومثل هذا الاختلاف لا يقدح إلا مع قرينة، فإن الحفاظ كالزهري وعبيد الله ونحوهما ـ يكون الحديث عندهم من وجهين وثلاثة أو أكثر، فتارة يحدثون به من وجه، وتارة يحدثون به من وجه آخر، وهذا يوجد كثيرًا في الصحيحين وغيرهما، ويظهر ذلك بأن من الرواة من يفرق بين شيخين، أو يذكر الحديثين جميعًا‏.‏

وقد روي البخاري من طريق نافع من حديث مالك بن أنس عنه،ولفظه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذكر شهر رمضان فقال‏:‏‏(‏لا تصومواحتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له‏)‏، لم يذكر في أوله قوله‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏ ولا ذكر الزيادة على عادته في أنه كان كثيرًا ما يترك التحديث بما لا يعمل به عنده‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏، فرواها مالك من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، ورواها من طريقه البخاري/عن عبد الله بن مسلمة ـ وهو القعنبي ـ‏:‏ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين‏)‏ هكذا وقع هذا اللفظ مختصرًا في البخاري‏.‏ وقد رواه عن الَقَعْنَبي عن مالك، وهو ناقص، فإن الذي في الموطأ‏:‏ ‏[‏يومًا‏]‏؛ لأن القعنبي لفظه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون يومًا، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له‏)‏ فذكر قوله‏:‏ ‏(‏ولا تفطروا حتى تروه‏)‏ وذكره بلفظة‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏ لا بلفظ‏:‏ ‏(‏فأكملوا العدة‏)‏وهكذا في سائر الموطآت مسبوق بذكر الجملتين، ولفظ ‏[‏القدر‏]‏، حتى قال أبو عمر ابن عبد البر‏:‏ لم يختلف عن نافع في هذا الحديث في قوله‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏ قال‏:‏ وكذلك روي سالم عن ابن عمر، وقد روي حديث مالك وغيره عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر قال‏:‏ ورواه الدَراوردِي عن عبد الله بن دينار فقال فيه‏:‏ ‏(‏فإن غم عليكم فأحصوا العدة‏)‏ فهذه ـ والله أعلم ـ نقص، ورواية بالمعني، وقع في حديث مالك الذي في البخاري، كما ذكر أبو بكر الإسماعيلي، غيره‏:‏ أن مثل ذلك وقع في هذا الباب في لفظ حديث أبي هريرة‏.‏

ومثل هذا اللفظ المشعر بالحصر ما رويناه ـ أيضًا ـ بالإسناد المتقدم إلى /أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسي، حدثنا شيبان، عن يحيي، أخبرني أبو سلمة قال‏:‏ سمعت ابن عمر يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏، ورواه النسائي من حديث معاوية عن يحيي هكذا‏.‏ وساقه ـ أيضًا ـ من طريق علي، عن يحيي، عن أبي سلمة أن أبا هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشهر يكون تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة‏)‏ وجعل النسائي هذا اختلافًا على يحيي عن أبي سلمة‏.‏ والصواب أن كلاهما محفوظ عن يحيي عن أبي سلمة، لا اختلاف في اللفظ‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عُقْبَة بن حُرَيث، سمعت ابن عمر يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏ وطبق شعبة يديه ثلاث مرات، وكسر الإبهام في الثالثة، قال عقبة‏:‏ وأحسبه قال‏:‏ ‏(‏الشهر ثلاثون‏)‏ وطبق كفيه ثلاث مرات، ورواه النسائي من حديث ابن المثني، عن غندر، لكن لفظه‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏ لم يزد‏.‏ فرواية أحمد أكمل وأحسن سياقًا تقدم، فإن الرواية المفسرة تبين أن سائر روايات ابن عمر التي فيها الشهر تسع وعشرون عني بها أحد شيئين‏:‏إما أن الشهر /قد يكون تسعة وعشرين ردًا على من يتهم أن الشهر المطلق هو ثلاثون، كما توهم من توهم من المتقدمين، وتبعهم على ذلك بعض الفقهاء في الشهر العددي، فيجعلونه ثلاثين يومًا